الفرقان

تحدثنا في المقالات السابقة عن كتب١ موسى و اشرنا الى الفرقان كدليل على ارتباط موسى الوثيق بالاسر و العبودية. و لا اقصد هنا المعاني التقليدية للكلمتين, فالاسر و السير اصل واحد يدل على المضي قدما و العبودية بمعنى تعبيد الطريق و تمهيده. و سنخصص سطور هذا المقال للتحقيق و الخوض بشكل اوسع في مسألة الفرقان و تبيان حقيقته.

قبل البدء في الحديث عن الفرقان, تجدر الاشارة الى انه و من هذا المقال فصاعدا, سيتم الاستشهاد بالايات دون تشكيل بعد ان اوضحنا عبثيته, حتى تستطيع عزيزي القارئ الاعتياد على قراءة المصحف بالشكل الاقرب لحقيقته.

و نبدا الخوض في مسألة الفرقان بتوضيح اهمية التمييز بين الفرقان و التورية, فالفرقان لا علاقة له بالتورية٢ و لا بالقران، فقد اوضحنا سابقا بان التورية لا ترتبط بموسى من الاساس, بينما الامر كذلك بالنسبة للفرقان. اما القران, فمن وظائفه الفرقان.

فلنبدأ بسرد الايات التى ورد فيها ذكر الكلمة كما هي ثم نوضح لاحقا في مواضع اخرى حقيقة الفرقان و التي كما هي عادة هذه الصحف، لم تغفل عن التفصيل في امرها، بل بشكل اعمق مما نظن، و سنرى ذلك:

من هنا ننطلق لنوضح حقيقة الفرقان و اليوم الذي يحدث فيه هذا الامر, فقد ورد ذكر الفرقن في البقرة ليوضح لنا آليته بتفصيل مدهش: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون). و هذه هي -عزيزي القارئ- حقيقة الفرقان, و التي تحدث بانفصال بني اسريل, و الذين يكونوا في هذا الموضع وسيلة للفرقان, عن فرعون و جنوده. ففرعون هو اداة العجز و الكسل و الذي يجهد كاهل ادوات السير (بني اسريل) بالبناء (يذبح ابناكم) و يحيى مايتبادر لها بانه حق مما هو نسي (يستحي نساوكم), اي ما هو متأخر في الفهم و الادراك, فيعظم ذلك في تلك النفس فتميل الى الكسل و لا تعد ترى حاجة الى النهوض و البحث لانها ترى نفسها متبعة للحق. ليس هذا فحسب, فالنفس في تلك المرحلة لا تكن قادرة على التفريق و التمييز بين حقيقة ما يصلها من معلومات, و ذلك لعدم اهليتها على اتباع اليات الفكر السليم في التحقق و التصديق, فالبحر ما زال واحد هنا و لم يصبح بحرين احدهما عدب فرات و الاخر ملح اجاج, فالمرء في هذا الوضع يعتبر كل ما يصله صحيح بما يترائى لنفسه و هواها و لا يكون قادر على اثبات صحة ما يصله لافتقاره الى المنهجية السليمة (الصراط المستقيم)

و يتضح الامر بشكل جلي في الاية التالية: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير). و هذا قانون الهي اخر يوضح لنا كيف تتوزع غنيمة المومنين, اي الافكار التي غنموها بعد ان امنوا عليها و تحققوا من مصداقيتها, فخمسة تذهب لله و الخمسة الاخر للرسول و الناس, و تلك عشر حصص. و هذا الامر لا يحدث دون تامين و الذي يبدا بالاكتمال بعد الفرقان. اي بعد ان يصبح الشخص قادرا على التفريق بين ما هو صحيح و ما هو خاطئ و ذلك باتباع الصراط المستقيم, و الجمعان هنا هم موسى و قومه, اي بني اسريل من جهة, و فرعون و جنوده من الجانب الاخر.  و ليس الجمعان من اكذوبة غزوة بدر و التي لم يستطع المؤرخون الى يومنا هذا -و لن يستطيعوا- اثبات تلك الاحداث التى صورها لنا من كان يقرا من هذه الصحف دون ان يعقل ما بها, فيسرد لنا ما ترائى له من اوهام, ثم يصبح لزاما على البقية تصديقه دون التحقق منه او التساؤل عن مدى صحته.

لكن ما علاقة القران بالفرقان؟ في الحقيقة فان الاجابة عن هذا التساؤل تطول, لكن يجب الاشارة الى موضعين هنا و ذلك بسبب ارتباطهما, اولاهما شهر رمضن و الذي يعتقد الجمهور بانه 30 يوم فلكي, رغم انه الاية تعرف ما هو هذا الشهر! فالشهر من الاشهار و هي نقطة محورية و مصيرية في الوصول الى مرحلة جديدة من الوعي و الادراك, ففي شهر رمضن و الذي -بالمناسبة هو نفسه يوم القيمة٤-, و سنفصل في هذا لاحقا, يحدث القران بين العلمين و يكون الشخص في هذا الموضع قادر على التفريق باحكام: (حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم). فاما يكون من اصحاب الجنة و اما ينقلب على عقبيه و يعود ليبقى في اصحاب السعير.

اعلم عزيزي القارئ, ان المصحف الذي بين ايدينا, هو كتاب من ارقى و اعظم ما قد تقرأ على الاطلاق, ان تركت عنك الفكر الموروث و بدأت تبحث في سطوره بتجرد, فهو بالمجمل يتحدث عن النفس و مراحل ارتقائها في الوعي و الادراك بتفصيل فريد من نوعه, فكل ما يحدث من صراع في النفس يتم تصويره من عدة زوايا حتى تتضح الصورة للقارئ عن كيفية تلك الصراعات و طريقة معالجتها و التعامل معها بشكل سليم, حتى نصبح قادرين على الانتاج و التواصل بشكل مثمر مع المحيط و بالتالي ترتقي المنظومة بالكامل, ان عملت بها.

فكل ما نقرأه من احداث بين موسى و بني اسريل ما هي الا تفصيل للصراع الذي في انفسنا بين جهاز الحث و الدفع الذاتي مع ادوات الادراك الدنيوية و الادوات التي تعمل بتلقائية (القلوب و السمع و الابصر) و كيفية مقاومتها للسير و النهوض مخالفة امر الله و ذلك باتباع الهوى و الوهم. و ليست احداث تاريخية وهمية, لا تسمن و لا تغني من جوع, و لا يستطيع عاقل ان يتصور كيفية حدوثها و اسبابه. فالله اعظم بكثير من ان ينشغل بمجموعة من الاشخاص فيرسل احدهم ليامرهم باتباعه. فوسيلة الارسال من عنده ارقى بكثير من هذا, فهي ادوات موجودة فينا و يصلنا من خلالها وحيه باشكاله المختلفة. و العجب كل العجب في هذه التبعية المبتدعة هو مدى سهولتها, فالمرء لا يحتاج الا ان يقول موافق و يصبح من الناجين, ثم يقوم ببعض الطقوس فرحا بما اوتي و مصدقا بان ما عليه هو الحق بعينه. و يدع العمل الحق لغيره و ينظر بام عينيه كيف يرتقي الخلق و هو باق مكانه يستنكر سبب تخلفه! و الحكم لك عزيزي القارئ, فليس لي من سلطان على احد و انما اوصل القول.